Créer un site internet

مسافر يرمي بقنبلة على سماسرة المستقبل

Auteur mauritanie

الداخلة بوست

وضع الطيران! إنها أول مرة سيرتفع فيها جسدي عن الأرض، متخلصا بذلك من ثقل الجاذبية الأرضية، ستكون أول مرة أضبط فيها هاتفي على "وضع الطيران" بشكل جدي، رغم أن روحي لطالما رفرفت بعيدا بين غبار النجوم...

أخيرا، سأخبر ذلك الطفل الحالم الذي كان يرعى قطعان الغيوم والعجول معا في تلك البراري الفسيحة، وينتزع الأشواك عن باطن أحذيته المليئة بالثقوب، ويتضرع إلى الله بكل خشوع أن تتدلى تلك الغيوم وتدنو حتى يمسك بها لترتفع ببصره نحو عتبات السماء، أخيرا، سأخبر ذلك الطفل بداخلي أنني على وشك "الطيران"! ربما لا يصدقني مطلقا، إن أنا أخبرته بأنني أجلس الآن في قاعة المسافرين بداخل المطار مثل "الدلفين"، أفتح عينا وأغمض أخرى، كأنني في شك من كل هذا، كأنني أشاهد حلما واضحا بتقنية HD، ربما أستيقظ منه على رائحة دخان الحطب المنبعث من فوهة "التنور"، وزقزقة الطيور وهي تتفقد أعشاشها المخبأة في سقف منزلنا المدعم بجذوع الأشجار والطين اليابس، هنالك خلف تلك الكثبان المستلقية بصبر تحت نظرات شمس الجنوب.

ذات شتاء بعيد، صممت طائرة ورقية وكتبت فوق هيكلها الورقي قائمة بجميع أحلامي، وقذفت بها ناحية السماء القريبة من روحي، والبعيدة عن نظراتي، لكنها سرعان ما مارست الهبوط الاضطراري، لتأكلها معزاتنا المرحة مع بقايا الطعام قبيل الغروب... ذات قرن بعيد، حاول عباس بن فرناس "الطيران"، لكنه سقط ومات رحمه الله، من بعده توقفت معظم شعوبنا عن محاولة الطيران وصناعة الأجنحة، أما أنا فقد حاولته وأنا صغير، فقفزت بشكل متهور متحديا "قانون الجاذبية الأرضية"، فسقطت سني بكل براءة فوق الأرض، لتنبت مكانها غابة كثيفة من الصمت تحفها قناديل التأمل..

عندما تحلق بنا الطائرة جهة الغيوم، ويتجلى الوطن من الأعلى كالكعكة الشهية المنزوعة الأنوار، عندها فقط: سأطل من وراء زجاج نافذتي محاولا رؤية "المتكبرين" القاطنين في الوطن، الذين يتصورون أنهم أفضل وأعظم من الناس، وأن هذه الأرض الشبيهة بالذرة المعلقة في فضاء هائل وضخم، تهتز تحت وقع خطواتهم المحدودة في متاع الغرور هذا، لن أبصرهم بكل تأكيد، كما أنني لن أبصر أتراح الأرض وأفراحها، فستبدو الأرض للركاب في الطائرة مثلما هي السماء للملتصقين بالأرض، فكل منهما يرى الأديم أزرقا ومبهما وبعيدا.. لولا الريح العاتية ونوافذ الطائرة الموصدة، لكتبت عدة رسائل ورميت بها عبر النافذة جهة "الوطن السفلي"!

الأولى، سأرميها شاقوليا على وزارة التعليم، وبداخلها قنبلة من غبار الطباشير الملونة والكتب الثقيلة، لتسقط على رؤوس سماسرة المستقبل بداخلها.. الثانية، سأرميها فوق قبة البرلمان، وأضع فيها كمية من الأصوات المبحوحة والمناديل المبللة بدموع الشعب. الثالثة، سأرميها جهة وزارة الصحة، وأضع فيها نظرات المرضى، المكتظة بالأدوية المزورة وبصاق المشعوذين الرابعة، سأرميها صوب وزارة الاقتصاد والمالية، مطالبا إياها بصرف علاوة السماء(البعد)، وترشيد الوعود. الخامسة، سأرميها جهة القصر الرمادي، واضعا بداخلها عجينة من التطور الحافي المدهون بزيت الأمل.. السادسة، سأرميها فوق تراب الوطن، وستكون أمطارا من السكر والمحبة والامتنان والمودة..

وفي النهاية إن الحياة هي وطن كل إنسان، وأينما يوجد أكسجين، يوجد وطن خصب وحكمة ما.. لذلك أنا مولع جدا بالأسفار، وقدوتي في ذلك طبعا ابن بطوطة، واعتقد أن السفر تجربة فريدة من نوعها، فهي تمدد العقل وتقلص التعصب السلبي للأنا، وتجعلنا نرى العالم من عدة زوايا متباينة! من باب "الوطنية"، ومن باب إظهار الوجه المشرق لبلاد شنقيط الحبيبة، عرجت على حمام طيبة الصحي، وطلبت منهم "إعادة ضبط المصنع"، وذلك من أجل تنقية جسدي من "ذنوب التنمية"، لكنهم عجزوا عن إصلاح ما أفسدته وزارة التعليم بالتعاون مع الطقس والأرز واللحم، اتضح ذلك جليا عندما نظرت للمرآة بكل موضوعية وحياد.

المهم أنني سأقضي معظم هذا اليوم في السماء، داخل جوف طائرة من طراز "Boeing 737-800" وهي تحلق في الهواء كطائر يعرف وجهته المحددة... هنا مطار أم التونسي، في مثل هذا اليوم من الأسبوع المنصرم، كانت عندى حصة في ثانوية تامشكط، حينها كنت أسند ظهري على نافذة القسم عند التعب، متأملا الأفق وصروف الدهر، اليوم أجدني سأجلس في مقاعد "الدرجة الاقتصادية" وقد أصبحت الغيوم تحتي، فسبحان مغير الأحوال، وسبحان من بيده ملكوت كل شيء. بخصوص استفساراتكم؛ سأرد عليها عند العودة للأرض إن شاء الله، دعواتكم أن لا تهتز الطائرة، أو أن تصيبها وعكة صحية ونحن على الهواء مباشرة..الساعة 06:35 صباحا وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.  

من صفحة الكاتب الموريتاني : خالد الفاظل