Créer un site internet

أزمة تشكيل الحكومة..هل باتت مهمة بنكيران مستحيلة؟

31323b9aae71f3fe58aa06c2956ada7c

الداخلة بوست

بعد مرور نحو خمسة أشهر على إجراء المغرب ثاني انتخابات له بعد الإصلاح الدستوري الذي عرفته البلاد عام 2011، وبعد مشاوراتٍ ماراثونية مع مختلف القوى والأحزاب السياسية؛ لم ينجح رئيس الحكومة المكلف، عبد الإله بنكيران، في تشكيل حكومته. ويحتاج حزب العدالة والتنمية الذي فاز بالمرتبة الأولى في انتخابات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2016 العامة، وبواقع 125 مقعدًا، إلى تأييد 198 نائبًا في البرلمان، من أصل 395، حتى تحظى حكومته بالثقة المطلوبة، ما يعني أنه بحاجة إلى الائتلاف مع عدد من الأحزاب، تتوفّر على العدد المطلوب من المقاعد لكسب الثقة، وهي مهمة لا تبدو سهلة.

لماذا التأخير؟

خلافًا للمعهود في دول أخرى؛ لم تُحدَّد في المغرب آجال دستورية لتشكيل الحكومة، إذ صمت الدستور المغربي لعام 2011 عن هذا الأمر، كما صمت عما يترتب عليه من فشل رئيس الحكومة المعين في تشكيل حكومته، ليفتح الباب على مصراعيه أمام تأويلاتٍ مختلفة للدستور. ويمكن لرئيس الحكومة المكلف، ما دام قد قبل بالتكليف، أن يأخذ ما يشاء من وقتٍ في تشكيل حكومته؛ ما يضع البلاد أمام مأزق حكم، ويدخلها في حالةٍ من الشلل، من حيث تبقى الحكومة القائمة حكومةَ تصريف أعمال، تقتصر مهماتها على تسيير الشؤون اليومية، من دون أن تكون قادرةً على اتخاذ قرارات على المستوى الإستراتيجي. على أن هذه ليست المرة الأولى التي يتعثر فيها تشكيل الحكومة، إذ تطلب تشكيل حكومة بنكيران الثانية في عام 2013 أكثر من أربعة أشهر.

والواقع أن تعثر تشكيل الحكومة يمثل نتيجة طبيعية لانتخابات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2016، والتي كان ينتظر منها، في ما يبدو، أن تنهي تداعيات مرحلة الثورات والانتفاضات العربية التي أنتجت دستور 2011، وتطوي معها هامش الحريات والتعدّدية السياسية الذي سمحت به. ومع استمرار تعثر جهد تشكيل الحكومة، تتعزّز الشكوك اليوم في وجود اتجاه داخل دوائر صنع القرار؛ يسعى إلى حرمان حزب العدالة والتنمية من تشكيل حكومته الثالثة، وهو الحق الذي كفله الدستور للحزب الفائز بالمرتبة الأولى، والدفع، ربما، باتجاه إجراء انتخابات جديدة.

منظومة الضبط الانتخابي

يدور نقاش واسع في المغرب حول وجود حالةٍ من عدم الرضا لدى أوساط المخزن عن الفرصة التي أتاحتها التعديلات الدستورية لحزب العدالة والتنمية بعد عام 2011، ومحاولات جرت لإسقاطه في انتخابات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2016. ولم ينجح هذا الأمر، على الرغم من إشراف وزارة الداخلية على العملية الانتخابية، وعلى الرغم من النظام الانتخابي الذي يحول دون فوز حزبٍ واحدٍ بأغلبية تسمح له بتشكيل الحكومة منفردًا، ويعد إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات، بدل “لجنة مستقلة للانتخابات” أحد الضمانات التي تملكها المؤسسة الحاكمة في المغرب، من حيث أن الوزارة ظلّت دائمًا وزارة سيادة تتبع القصر، ولم تنجح حكومتا عبد الرحمن اليوسفي وعبد الإله بنكيران في تغيير هذا الواقع. وتحتكر وزارة الداخلية “اللوائح الانتخابية” التي تسجّل فيها قوائم المواطنين المخوّلين بالمشاركة في الانتخابات، والتي تجدَّد باستمرار عبر تسجيل مواطنين جدد، بلغوا سن الاقتراع (18 سنة) أو شطب المتوفَّيْن منهم. كما تحتكر وزارة الداخلية معايير الترشيح؛ إذ بإمكانها رفض ترشح أفراد معينين لأسباب قانونية، بعضها فضفاض ويقبل التأويل.

وقد اشتكى حزب العدالة والتنمية، خلال المدّة السابقة للانتخابات، من ممارسات وزارة الداخلية ضد مرشحيه وقواعده الانتخابية؛ إذ عمدت وزارة الداخلية إلى منع بعض مرشحيه من المشاركة في الانتخابات. كما اشتكى الحزب من تشتيت قواعده الانتخابية في مراكز اقتراع بعيدة من أماكن سكنهم، لمنعهم من المشاركة يوم الانتخابات. واتهمت مجموعةٌ من الأحزاب، من بينها العدالة والتنمية وفيدرالية اليسار (تحالف ثلاثة أحزاب يسارية)، وزارة الداخلية بالتدخل لدعم مرشحي حزب الأصالة والمعاصرة، والذي يُعدُّ قريبًا من القصر.

لكن معركة ضبط نتائج الانتخابات لم تبدأ فقط قبيل موعدها، وإنما بدأت مبكرًا مع المفاوضات التي جرت بين الداخلية والأحزاب حول خريطة التقسيم الانتخابي الجديد، ولائحة الدوائر الانتخابية قبل اعتمادها رسميًا صيف 2015. واشتكت أحزاب سياسية من التقسيم الانتخابي المقترح الذي يهدف إلى التحكم بنتائج الانتخابات قبل إجرائها. وباحتكارها التفاصيل الجزئية للانتخابات في المغرب، عبر تاريخها الطويل وتطورها، يكون بإمكان وزارة الداخلية تفكيك الدوائر الانتخابية وإعادة تشكيلها لتحويل الأغلبيات إلى أقليات والعكس.

وأضيف إلى موضوع التقسيم الانتخابي موضوع آخر متعلق بالعتبة الانتخابية؛ إذ جرت مفاوضاتٌ طويلةٌ حوله بين وزارة الداخلية التي طالبت بإلغاء العتبة الانتخابية السابقة المتمثلة بـ 6% للسماح للأحزاب الصغيرة بالتمثيل في البرلمان، والأحزاب السياسية الكبيرة التي تريد إبقاء العتبة عالية، وتتهم الداخلية بالرغبة في تفتيت المشهد الانتخابي، لمنع تشكيل أغلبيات مريحة. وقد توصل بنكيران إلى تفاهم مع وزير الداخلية حول تخفيض العتبة إلى 3% حلاً وسطاً، وكان واضحًا أن “العدالة والتنمية”، بوصفه أكبر حزب سياسي في المغرب؛ سيكون المتضرّر الأكبر من خفض العتبة الانتخابية، ما سيسمح لأحزاب صغيرة بتقاسم بعض المقاعد النيابية معه.

و يبقى النظام الانتخابي الضمانة الأساسية في المغرب لمنع حصول أي حزبٍ سياسي على الأغلبية التي تمكّنه من الحكم منفردًا. ويقوم هذا النظام على التمثيل النسبي مع قاعدة تقاسم الأحزاب الأصوات المتبقية، كل بحسب حجمه. وتتجلى أهمية هذا النظام الانتخابي في قدرته على تمثيل أكبر عدد ممكن من الأحزاب في البرلمان، لكنه أيضًا يؤدي إلى تفتيت المشهد السياسي وبعثرة الأصوات. وإذًا، إنتاج حكومات ائتلافية غير مستقرة وغير متجانسة عادة. تمثل هذه الأدوات مجتمعة (النظام الانتخابي، والعتبة، والتقسيم الانتخابي، وإشراف الداخلية) منظومة الضبط الانتخابي في المغرب، والتي تمنع حدوث أي مفاجأةٍ تخلّ بقواعد النظام السياسي الذي يسمح بهامش من التعددية السياسية والمشاركة الانتخابية المضبوطة.

مأزق النظام السياسي

نجحت منظومة الضبط الانتخابي في منع حصول مفاجآت منذ عام 1997 مع تجربة حكومة التناوب، إلى حين الانتخابات الجهوية عام 2015، والتي قوّضت هذا النمط من الاقتراع على المستوى المحلي، إذ نجح حزب العدالة والتنمية في الفوز بالأغلبية الساحقة في مجالس المدن الكبيرة في المغرب، وبأغلبية مريحة، على الرغم من العائق الكبير الذي ظل يشكله نمط الاقتراع. وكانت تلك أولى علامات تصدّع منظومة الضبط الانتخابي، قبل أن تأتي انتخابات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وتوجه لها ضربة جديدة، بفوز حزب العدالة والتنمية بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية في تاريخ التجربة الانتخابية المغربية.

فالنظام السياسي الذي فقد أدوات الضبط غير قادر على العودة إلى الخلف، والانقلاب على نتائج العملية الانتخابية، ولا هو قادر على المضي نحو مرحلة جديدة يخسر فيها بعضًا من سلطته ونفوذه لمصلحة صندوق الاقتراع. كما أن الحزب المتصدر للانتخابات وحلفاءه لا يستطيعون تشكيل حكومة بمفردهم، مع تكتل كل الأحزاب الإدارية في خندقٍ واحد، هدفه منع ترجمة انتصار السابع من أكتوبر/ تشرين الأول على أرض الواقع، وفي التشكيلة الحكومية.

سيناريوهات الحل

عرّت أزمة تشكيل الحكومة الحالية واقع الأزمة الهيكلية في بنية النظام السياسي المغربي الذي يوصف في الأدبيات السياسية بأنه “نظام هجينHybrid Regime، يخلط ممارسات ديمقراطية حديثة بأخرى سلطوية تقليدية، فلا هو نظام ديمقراطي حقيقي، ولا هو نظام استبدادي صرف. يجد هذا النظام نفسه اليوم أمام سيناريوهين محتملين للخروج من المأزق الراهن:

السيناريو الأول: الوصول إلى “صفقة جديدة” تشبه التي جاءت بحكومة بنكيران الأولى، بعد اندلاع احتجاجات عام 2011، وإقرار التعديلات الدستورية. وقد كان عنوان هذه الصفقة “الإصلاح في ظل الاستقرار”، وضمان الملكية وحدة البلاد، أي إمكان إجراء إصلاحاتٍ سياسيةٍ ودستورية في النظام المغربي لضمان انتقال ديمقراطي سلمي، لا يعرّض البلد لخضّاتٍ سياسية وأمنية واقتصادية عالية، في بلد يعرف تعدديةً لغوية وثقافيةً وأيديولوجيةً كبيرة.

السيناريو الثاني: عدم التوصل إلى اتفاق، وفشل بنكيران في تشكيل حكومته الجديدة. ومن ثم، تقديم استقالته إلى الملك محمد السادس. ويبقى الدستور المغربي غير حاسم في ما يترتب على هذه الحالة، إذ توجد قراءتان دستوريتان لهذه الوضعية:

الأولى، تتبنى التأويل الديمقراطي للدستور، وترى أنه، في حالة فشل رئيس الحكومة المعين في تشكيل حكومته تعود الشرعية الانتخابية إلى الشعب الذي يعيد ممارسة سلطته، عبر صناديق الاقتراع في انتخابات جديدة. وتبقى هذه القراءة هي الأقرب إلى مضمون الدستور المغربي، على الرغم من أنها لا تضمن أن تأتي الانتخابات المقبلة بأغلبيةٍ واضحة، بسبب قانون الانتخاب وطريقة إجراء الانتخابات التي تجعل الأمر في غاية الصعوبة. وفي حالة أجريت انتخابات جديدة تبقى حظوظ حزب العدالة والتنمية كبيرة للفوز بها، وربما بعدد أكبر من المقاعد، وذلك لقدراته التنظيمية وخبرته الانتخابية الطويلة.

الثانية، تتبنى تأويلًا غير ديمقراطي للدستور؛ إذ تطالب بتعيين أمين عام الحزب الثاني (حزب الأصالة والمعاصرة) رئيسًا للحكومة، في حالة فشل أمين عام الحزب الأول (العدالة والتنمية) في تشكيل أغلبيته الحكومية. وعلى الرغم من أن الدستور المغربي لا ينص على هذا الإمكان إطلاقًا، فقد طالب الحزب الثاني بذلك، في مذكرة موجهة إلى الملك محمد السادس، بإجراء تعديلات على الدستور تسمح بهذا الإمكان. ويبقى هذا الاحتمال متداولًا بكثافة في الأوساط السياسية المغربية، بوصفه حلًّا عمليًّا لتعثر تشكيل الحكومة، بعد أن نجح تحالفٌ من الحزب الثاني، وعدد من الأحزاب السياسية الأخرى، في إيصال مرشح من المعارضة إلى رئاسة البرلمان، وهو ما يوحي بامتلاكه أغلبية برلمانية جاهزة تحت تصرفه.

ولكن، تبقى فرضية التوصل إلى اتفاق بين بنكيران والمؤسسة الملكية هي الأرجح، وذلك لحاجة الطرفين، أحدهما إلى الآخر، في هذه المرحلة على الأقل؛ إذ دشن المغرب، أخيرا، مرحلة جديدة من الانفتاح على أفريقيا، والسعي إلى حل قضية الصحراء من خلال دبلوماسية إقليمية وقارية فاعلة، مستفيدًا من انهيار نظام القذافي في ليبيا، وانشغال الجزائر بترتيبات ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. بناءً عليه؛ يحتاج المغرب، في هذه المرحلة، إلى توحيد جبهته الداخلية، ووجود حكومة تحظى بشرعية شعبية، حتى يستطيع تقديم نموذجه الناجح المتمثل بمرونة النظام الملكي، و”الإصلاح في ظل الاستقرار” للإقليمين العربي والأفريقي.

أما داخليًا، فالبلاد مقبلة على إجراءات اقتصادية واجتماعية، تتطلب حكومة قوية وذات شرعية انتخابية، لتمرير حزمة من القرارات “غير الشعبية”، من قبيل رفع الدعم عن مواد استهلاكية، والتعويم التدريجي للعملة والذي بدأ توًّا. وفي حالة عدم وجود حكومةٍ تحظى بثقة الشعب، ستسبب هذه القرارات مزيدًا من الاحتقان الاجتماعي، بما في ذلك مخاطر على الاستقرار السياسي في البلاد.

المصدر: العربي الجديد